المعارضة التونسية- توازن الضعف وسُبل استعادة الديمقراطية после 25 يوليو

المؤلف: جمال الطاهر09.18.2025
المعارضة التونسية- توازن الضعف وسُبل استعادة الديمقراطية после 25 يوليو

في صلب المعادلة السياسية المعقدة في تونس، يبرز طرفان رئيسيان: السلطة الحاكمة بقيادة الرئيس قيس سعيد، والمنظومة السياسية التي تتضمن قوى المعارضة بمختلف أطيافها. يكتسب الجانب المعارض أهمية خاصة، في حين أن الجانب الداعم للسلطة يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من النظام الحاكم، حتى وإن لجأ في بعض الأحيان إلى إبداء انتقادات طفيفة لا تُحدث تغييرًا جوهريًا في موازين القوى.

تتمتع كافة العائلات السياسية المعارضة، سواء كانت إسلامية أو يسارية أو ديمقراطية، بتاريخ أطول وأعمق من تاريخ الرئيس قيس سعيد ونظامه. فقد شاركت هذه القوى الفاعلة، بدرجات متفاوتة، في اللحظات التاريخية الحاسمة التي شهدتها تونس منذ استقلالها عام 1957 في عهد بورقيبة، وصولًا إلى سقوط نظام بن علي واندلاع ثورة الحرية والكرامة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 – 14 يناير/كانون الثاني 2011. في المقابل، غاب قيس سعيد عن هذه المحطات التاريخية، إذ كان مقربًا من نظام بن علي، بل وشارك في دوائره، وقدم استشارات قانونية لتعديل الدستور بناءً على طلب بن علي ورغبته في تمديد فترة حكمه بما يتجاوز الحدود الدستورية التي وضعها بنفسه.

المعارضة والفرص الضائعة

بعد ثورة 2011 وحتى انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، شهد المشهد السياسي التونسي ازديادًا كبيرًا في عدد الأحزاب السياسية. لكن الأهم من بين هذه الأحزاب هي تلك التي شاركت في الانتخابات المتنوعة التي جرت خلال الفترة الانتقالية، مثل انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، والانتخابات التشريعية والرئاسية في أعوام 2014 و2019، والانتخابات البلدية في عام 2018.

وعلى الرغم من بقاء العائلات السياسية الرئيسية كما هي (الإسلامية، اليسارية، الديمقراطية، القومية، الدستورية)، إلا أن الثورة قد غيّرت بشكل ملحوظ أحجامها وتوزيعها الجغرافي وتوازنات القوى بينها. وقد تجلى هذا التغيير في نتائج الانتخابات التي حظيت بإجماع واسع حول نزاهتها وديمقراطيتها وتمثيليتها، والتي أشرفت عليها هيئة مستقلة منتخبة من السلطة التشريعية، ورقابتها من قبل مراقبين محليين ودوليين.

لقد أظهرت أغلب المحطات الانتخابية خلال الفترة الانتقالية قوة التيار الإسلامي، الذي تصدر نتائج انتخابات 2011 و2019 التشريعية، وانتخابات 2018 البلدية، وحلّ ثانيًا في انتخابات 2014 التشريعية، وثالثًا في الانتخابات الرئاسية عام 2019.

في المقابل، وباستثناء فوز حركة نداء تونس (التي تمثل خليطًا من قوى النظام القديم وتيارات يسارية ونقابية معارضة لحركة النهضة) بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014، وحصول حزب قلب تونس (الذي يشبه في تركيبته حزب نداء تونس، ويمكن اعتباره امتدادًا له) على المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019، حافظت بقية العائلات السياسية (اليسارية والقومية والديمقراطية) على حضور متواضع نسبيًا، مع تقدم وتراجع متفاوتين، إلا أن ذلك لم يمنعها من المشاركة في الحكم ولعب أدوار سياسية ذات تأثير.

وإلى جانب التباين الواضح في الأحجام والأوزان الانتخابية، تميزت الحالة الحزبية والسياسية في العقد الذي أعقب الثورة بخصائص متعددة كان لها انعكاسات جلية على التجربة الديمقراطية، وتسببت في نهاية المطاف في الانتكاسة التي أدت إلى الانقلاب.

فقد اتسمت الحالة الحزبية في مجملها بالضعف، مما أدى إلى ظهور مشهد سياسي يتسم بالكثير من الهشاشة، وتسللت من خلاله أجندات هدفت إلى تسميم الأجواء السياسية وإخراجها عن وظائفها الأساسية المتمثلة في تعبئة المواطنين وإشراكهم في الشأن العام، وتقديم برامج سياسية واقتصادية واجتماعية للمنافسة الديمقراطية في الانتخابات، بهدف قيادة الحكم أو المشاركة فيه، أو معارضته على أساس مجموعة من القيم والمبادئ المشتركة.

من بين الأسباب الرئيسية التي أفرزت مشهدًا حزبيًا وسياسيًا واهنًا بقي في معظمه على هامش الفترة الانتقالية وتطلعاتها، يمكننا أن نذكر ما يلي:

  1. الإخفاق الانتخابي المتكرر للعديد من الأحزاب، مما حوّل مشروعها السياسي إلى مجرد استثمار في خطاب الكراهية والصراع الصفري، واعتماد استراتيجية لتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي واستهداف الفاعلين فيه.
  2. ضعف الهياكل التنظيمية وانحسار التوزيع الجغرافي والقطاعي للعديد من الأحزاب، مما حدّ من قدرتها على التعبئة والإقناع والاستمرار في مشهد سياسي انتقالي متحرك.
  3. كثرة الانشقاقات على أساس خلافات تنظيمية حول التموقع وتوزيع النفوذ، بعيدًا عن الخلافات الفكرية العميقة التي تثري التجربة وتستجيب للتحولات الكبرى في الواقع. لم تسلم حركة النهضة، وهي أكبر الأحزاب السياسية وأقدمها وأكثرها تنظيمًا، من الانقسام، إذ استقال منها عدد غير قليل من القيادات والأعضاء، منفردين أو مجتمعين، واتجه بعضهم إلى تأسيس حزب سياسي منافس.
  4. غياب البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجادة والجاذبة، نتيجة انشغال الأحزاب بالمسائل اليومية والصراعات الجانبية والمعارك الإعلامية المفتعلة، مما جعل الخطاب السياسي يفتقر إلى الرؤى البناءة ويبتعد عن واقع التونسيين وتطلعاتهم. ويتضح تواضع البرامج السياسية والاقتصادية للأحزاب في نتائج الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد في عامي 2014 و2019، مرورًا بالانتخابات المحلية في عام 2018 التي فاز المستقلون بأغلبية مقاعدها.
  5. العداء الحاد والمطلق لحركة النهضة ومشروعها السياسي والمجتمعي، والذي ينبع من موقف أيديولوجي متصلب لا يعترف بالنهضة وحقها في تمثيل شريحة كبيرة من التونسيين، ويرفض التقارب معها ويسعى إلى عزلها واستئصالها وإقصائها من المشهد السياسي وإخراجها من الفضاء العام، بعد تحميلها مسؤولية كل المساوئ التي شهدتها البلاد، وتجاهل كل النجاحات التي حققتها.

وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن إضافة سببين آخرين مهمين من خارج المنظومة الحزبية، يتعلق أولهما بقصور المنظومة القانونية المنظمة للأحزاب السياسية (المرسوم عدد 87 المؤرخ في سنة 2011)، وضعف التمويل العمومي لها حتى بالنسبة للأحزاب الفائزة في الانتخابات. وقد حرم ذلك الأحزاب من الأدوات والآليات اللازمة لتطوير هياكلها التنظيمية، وصياغة برامجها السياسية، وضمان استقرارها واستمراريتها ومساهمتها في بناء حالة حزبية متطورة ومتجددة وجاذبة لقوى التغيير من الشباب والنساء والكفاءات. كان اختلال التوازن الحزبي لصالح حركة النهضة وراء منع تمرير قانون تمويل الأحزاب، لأن النهضة كانت ستكون أكبر المستفيدين منه.

أما السبب الثاني فيتعلق بالتدخل الخارجي السلبي في المشهد السياسي ومساراته، بهدف منع التجربة الديمقراطية من النجاح ودعم الثورة المضادة وعودة النظام القديم. وتتجلى آثار هذا التدخل بوضوح في برامج بعض الأحزاب السياسية، وفي الخط التحريري لعدد من المؤسسات الإعلامية، وفي محاولة ابتزاز التونسيين، حيث يتم تخييرهم بين التمسك بالثورة وما قد يجلبه ذلك عليهم من أزمات وصلت إلى حد الإرهاب والاغتيال السياسي والاحتقان الاجتماعي، وبين التخلي عن الثورة مقابل الوعد بإغداق الأموال عليهم. وهو ما لم يتحقق بعد الانقلاب.

توازن القوى الهشة بين السلطة والمعارضة

إن ما نشهده اليوم، بعد مرور حوالي أربع سنوات على انقلاب 25 يوليو/تموز 2021، من ضعف وتشتت في صفوف المعارضة، على الرغم من أنها تعيش جميعها تحت وطأة الانقلاب والاستبداد، دليل على أنها لا تزال تعاني من ترسبات الماضي التي جعلت أغلبها، عن قصد أو غير قصد، أداة لتعطيل الانتقال الديمقراطي، وإفساح المجال للانقلاب لوقف التجربة وتصفية مكاسبها.

وعلى الرغم من الأزمات التي تعيشها السلطة والمخاطر المتزايدة التي تواجهها، لم تتخذ المعارضة أي خطوات جادة تدفعها إلى تجاوز وضعها القديم والانخراط في ديناميكية جديدة لبناء حالة سياسية جديدة تمكنها من مواجهة الانقلاب وتقريبها من استعادة نظام ديمقراطي خالٍ من عيوب التجربة السابقة.

إن ما يميز المشهد السياسي العام في تونس هو توازن الضعف بين السلطة والمعارضة، وهي حالة قد تطول بذاتها أو بفعل إرادة جهة أو جهات معينة لها مصلحة في هذا الضعف المتبادل بين السلطة والمعارضة، بهدف تمرير أجنداتها وخدمة مصالحها. وفي هذه الحالة، تكون المعارضة بصدد ارتكاب خطيئة ثانية، وهي المساهمة في إضعاف تونس وفتحها للتدخل الخارجي "المقنع" أحيانًا والصريح أحيانًا أخرى، بعد أن ارتكب أغلبها خطيئتها الأولى المتمثلة في عرقلة الانتقال الديمقراطي.

لا تزال أثقال الماضي تلقي بظلالها على أغلب أطياف المشهد السياسي، ولا تزال الخطابات السياسية لأغلب رموز وتيارات المعارضة قاصرة عن استيعاب التطورات وعاجزة عن اتخاذ مواقف وطنية جامعة، وذلك على الرغم من بعض "المبادرات" المتواضعة، وعلى الرغم من الفرص الهامة التي أتاحتها الانتخابات الرئاسية الأخيرة (أكتوبر/تشرين الأول 2024) للمعارضة للانطلاق في بناء قاعدة سياسية جديدة تتجاوز الماضي.

المسار نحو الديمقراطية

لا يختلف اثنان على أن وضع المعارضة الحالي، سواء كان في حالة جمود أو في حالة تقدم بطيء للغاية، لا يبشر بمستقبل واعد في الأمد القريب. فإذا استمرت المعارضة على هذا النهج، فإنها ستظل تدور في حلقة مفرغة، وتستنزف أوقاتًا ثمينة وطاقات هائلة في معارك لم تعد مبررة وفقدت صلاحيتها، وتضاءلت دائرة المهتمين بها إلى حد كبير، حتى أنها لم تعد تعني سوى شريحة ضيقة من الشعب، بل وحتى من المنتمين إلى أغلب أحزاب المعارضة، وخاصةً الشباب.

في المقابل، فإن المسار نحو الديمقراطية واضح وجلي، وقد تجسدت ملامحه في التجربة التونسية والتجارب المقارنة والمشابهة. إنه طريق سريع وسالك وآمن، لأنه معبد بأسمنت مسلح يتمثل في تركيبة محكمة ومتينة بين عناصر ضرورية عديدة، منها:

  1. التمسك بالديمقراطية كمبدأ أساسي غير قابل للتجزئة أو المساومة أو المقايضة، لأن بناء نظام ديمقراطي يستلزم بالضرورة بناء ثقافة ديمقراطية ووجود ديمقراطيين يجتمعون حول فكرة ميثاق أو بيان أو عهد ديمقراطي معلن وملزم.
  2. التمسك بالحريات كموقف مبدئي لا يتغير ولا يتحدد بحسب هوية الضحية وانتمائها السياسي أو الفكري. ويمكن اعتبار باب الحقوق والحريات في دستور الثورة (2014) أرضية جامعة يلتقي عليها الجميع بطريقة صريحة وواضحة، خاصة أنه جاء نتيجة توافق واسع بعد مسار طويل من التداول السياسي والمدني.
  3. التصدي لأجندات التسميم السياسي والممارسات السياسية الطفيلية من خلال وضع التشريعات اللازمة لمنع ذلك ومحاسبة من يحاول تلطيخ الحياة العامة والسياسية وتحقير الديمقراطية والالتفاف عليها وتمجيد الاستبداد.
  4. المنافسة في تقديم البرامج السياسية من خلال خطاب سياسي بناء يتمحور حول الوطن والمواطن، وذلك من خلال تقديم أفكار ومشاريع بعيدًا عن استهداف الأشخاص أو الكيانات.
  5. الاعتراف المتبادل بين الجميع على أساس المواطنة والحق في التنظيم والتعبير والالتزام الجماعي ببناء مقومات العيش المشترك بين جميع التعبيرات السياسية على اختلافها.
  6. مدنية الدولة وسلمية التداول على السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وتعددية تنظمها وتشرف عليها هيئة مستقلة تحت رقابة المجتمع المدني.
  7. تقبل نتائج الانتخابات ومنح الفائز الحق في تولي السلطة وإدارة الحكم بكل أدواته، مع ضمان حق الآخرين في المعارضة والمنافسة.
  8. الديمقراطية الحزبية التي تسمح بتداول القيادة بين الأجيال وتجديد الأفكار وإثراء المشهد السياسي العام بقوى جديدة، فالديمقراطية لا تبنيها إلا أحزاب ديمقراطية.

ويبدو أن الطريق إلى الديمقراطية يخلو من العوائق التي تعيق التقدم والوصول إلى الهدف المنشود المتمثل في استعادة الديمقراطية، ومن بين هذه العوائق:

  1. التنافر والإقصاء والصراعات الصفرية بين مختلف الفاعلين السياسيين، بغض النظر عن درجة الاختلاف معهم في الخلفية الفكرية أو في الخيارات والبرامج.
  2. الصراع على أساس الهوية، علمًا أن دستور الثورة (2014) قد حسم هذه المسألة وثبّت أن تونس دولة عربية دينها الإسلام، كما ثبّت حرية المعتقد وحرية الضمير، ومنح المجتمع المدني الأدوات اللازمة لجعل تونس مجتمعًا آمنًا ومنسجمًا يدير خلافاته بالقانون بعيدًا عن هيمنة الدولة أو أي طرف آخر.
  3. التداخل بين الفضاءات المختلفة، مثل التداخل بين الفضاء السياسي والمدني، والفضاء السياسي والديني، والفضاء السياسي والمالي، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة وأدوار كل فضاء، وأن جميع الفضاءات تتكامل في خدمة المصلحة الوطنية، كل في مجاله وضمن حدوده، بعيدًا عن التوظيف والاستغلال.
  4. العلاقة بالخارج، وخاصة الدول والجهات المشبوهة، بهدف خدمة أجندات تتعارض مع المصالح العليا لتونس. يجب أن تقتصر علاقات الأحزاب السياسية على الأحزاب السياسية الديمقراطية، أو على الهيئات المدنية الدولية التي تعمل في مجالات تستفيد منها تونس دون تدخل في قراراتها أو التأثير عليها.
  5. الإعلام المنحاز الذي يفتقر إلى قواعد المهنية والمخترق بالمال السياسي من الداخل والخارج، والذي تسرب إليه أشخاص لا علاقة لهم بالعمل الإعلامي والصحفي المهني، وتم توظيفهم لتلويث المشهد الإعلامي وتسميم السياسة وتقويض العملية السياسية والسياسيين ونشر التفاهة وتشويه الذوق العام.

قد تشتد قبضة السلطة على البلاد والعباد، ويضيق مجال الحقوق والحريات أكثر مما هو ضيق الآن، إذا بقيت المعارضة حبيسة الماضي وتحت تأثير أثقاله. ولن تخرج المعارضة والبلاد من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية والديمقراطية إلا بإحداث نقلة نوعية وعميقة في الثقافة السياسية تقوم على النقاط التي ذكرناها أعلاه.

ومثلما أن التاريخ والذاكرة لن يمحوا الكوارث التي ارتكبها الانقلاب والتي أخرت تونس عقودًا إلى الوراء وصادرت مستقبلها، فإن التاريخ والذاكرة لن يعفيا المعارضة أيضًا، وربما بدرجة أكبر، من مسؤوليتها عن التفريط بالثورة والانتقال الديمقراطي ووصول البلاد إلى الانقلاب، ومن مسؤوليتها أيضًا عن إعادة تأهيل نفسها كما يجب لتقوم بما يلزم لإنقاذ تونس ووضعها من جديد على سكة الحرية والديمقراطية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة